بين بطالة عصر النبوة وبطالة كمبوديا
قد كان هناك بطالة في عصر النبوة بشاهد قوله تعالى {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} فهؤلاء يُعدون في معدل البطالة اليوم، لأنهم كانوا يريدون العمل لكنهم لا يجدونه.
كما كان هناك نوعية من التي لا تُحسب في معدل البطالة اليوم.
وهو العاطل الذي يجد العمل.. بشاهد قوله عليه السلام المروي في الصحيح عن أبي هريرة قال:
والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله أعطاه أو منعه.
واستشهاد مسؤول أو وزير بسنن الله وبالعصر النبوي، أمر يجب أن يُشكره عليه الجمهور إضافه لشكره بأنه تواصل مع الشارع، بينما جَبُن أو ترفع أخرون عن التواصل مع الشارع.
وعموماً فالبطالة شأنها شأن غالب المؤشرات، قد يُتلاعب في أوزانها أو مدخلاتها فتعكس غير حقيقتها. وقد تكون قياسية محضة لا تلاعب فيها، إلا أن جودة أرقامها تدل على عكس ذلك.
فالمؤشرات مجرد معلومات خام لا يمكن الخروج منها بنتيجة قبل معرفة كل تفاصيل قصتها من خلفها.
فكمبوديا الشيوعية لا تتساوى في حقيقة البطالة مع قطر، ولو قارب معدل البطالة في كل منهما الصفر.
فكون معدل البطالة يقارب الصفر فيهما، فيه دلالة على صحة الاقتصاد، إلا أن الحقيقة غير ذلك نتيجة وسببا.
فالفقر الشديد سبب انعدام البطالة في كمبوديا، والغنى الشديد هو سبب انخفاض البطالة في قطر.
والحقيقة الاقتصادية هي أن إنتاجية العمالة في كل منهما إنتاجية منخفضة.
فعمالة كمبوديا بسيطة تافهة لا تكاد تنتج شيئاً ذا قيمة، وإن كانت شاقة.
بينما عمالة قطر -والخليج كله- هي في الواقع بطالة مقنعة كاملة أو جزئية أو كلاسيكية أو تضاعفية، فالإنتاجية في العمالة الخليجية عموماً منخفضة.
وإذا نظرنا لكمبوديا وزمبابوي، فسنجدهما قد اجتمعا في الفقر، وتناقضا في المؤشر الذي هو معدل البطالة.
فإن كانت البطالة قريب الصفر في كمبوديا فهي تصل إلى 95%. في زمبابوي والسبب هو إنفلات الأمن وغياب السلطة في زمبابوي.
-وشبه انعدام البطالة في ألمانيا في أوائل الستينات ليس كشبه إنعدام البطالة في الحقبة النازية، فالأولى بناءة والثانية هدامة.
-والحرب تُحي الاقتصاد وتقضي على البطالة في الدول المنتجة، والحرب نفسها تقلب الوضع في الدول المستهلكة فتحي البطالة وتقضي على الاقتصاد.
ولو استرسلت في التمثيل على اختلاف أسباب البطالة ونتائجها وصور نتائجها، لكتبت كتابا.
والبطالة لابد منها في أي مجمتع، وتزداد مع تقدم الاقتصاد وتنوعه وثراؤه. فوجود بطالة طبيعية في المجتمع، لكون السوق من خلق الله فهو يتبع سنن الله في الخلق. ولهذا أطلق عليها علم الاقتصاد وصف البطالة الطبيعية.
وبما أن السوق هو قوانين رياضية تستجيب للسلوك الإنساني، وبما أن السلوك الإنساني يتغير ويتبدل بتغير وتبدل الأحوال من حال غنى وفقر وحال أمن وخوف وحال تقدم وتخلف، فإن الناتج عن هذا هو إن معدل البطالة الطبيعية يختلف باختلاف الثقافات والبلاد والاقتصاديات ويختلف في البلد الواحد عبر الزمن، فما أشد من تقلب حال الإنسان وما أكثر من تبدل أحوال المجمتمعات. وكذلك، فكما أن معدل البطالة الطبيعية يختلف باختلاف الأحوال، فإنه يختلف باختلاف الأسباب.
فقوانين حماية العمال والأجور والاتحادات العمالية هي سبب ارتفاع معدل البطالة الطبيعية في أوروبا، بينما فوائد العاطلين هي أسباب البطالة الطبيعية في كندا.
وقد كانت اليابان بسبب ثقافة الولاء فيها، من أقل الدول في معدل البطالة الطبيعية حتى فترة قريبة. فما كان الياباني ليغير عمله أو شركته، فهو عار كالساموري يضيع لقبه ويُنبذ اجتماعياً إذا خسر سيده أو قُتل.
ويُقال إن الياباني كان إذا أضرب عن العمل وضع لافته تقول «أنا مضرب» ويستمر في عمله.
فلما بدأت اليابان تفقد ثقافة الولاء، أصبحت كأمريكا في معدل البطالة الطبيعي.
ومعدل البطالة الطبيعي في السعودية قبل البترول كان منخفضاً، شأنه شأن معدل البطالة نفسها، وذلك بسبب قلة موارد البلاد قبل البترول مع بساطة الاقتصاد. فشأنن البلاد آن ذاك كان لا يبعد كثيراً عن شأن عصر النبوة قديماً أو كحال كمبوديا اليوم.
ومع سنوات الطفرة الأولى للبترول، لم يرتفع البطالة في السعودية، ولكن ارتفع معدل غير المشاركين من القوة العاملة السعودية، فالعازف عن العمل لا يحسب في معدل البطالة. والسبب هو زهادة الناس في الوظائف ذات الرواتب المنخفضة.
فقد ندر مثلاً أن تجد من يقبل بإمامة المسجد أو التأذنين بالصلاة، ثم ها هم بعد الطفرة يقتتلون عليها، -للسكن خاصة-.
وأما اليوم، قد ارتفع معدل البطالة الطبيعي في السعودية ارتفاعاً كبيراً، والسبب هو عدم ملاءمة المهارات للقوة العاملة لاحتياجات السوق. وأصل أسباب عزوف الإنسان عن العمل وهو قادر هو قلة الأجر عن تطلعاته، وثراء المجتمع يحدد المقاييس التي يقيس بها أفراده مستوى الأجور. ومعدل البطالة لا يحسب هذا الصنف، وإن كان هذا هو سبباً رئيسياً في ارتفاع معدل البطالة.
فإن كان معدل البطالة لا يحسب من لا يريد العمل، إلا أنه يحسب معدل البطالة الطبيعي مع البطالة الناتجة عن تغير حال الاقتصاد.
وتطور الاقتصاد وثراؤه يرفع من معدل البطالة الطبيعية. وذلك لأن الشرائح الرئيسية التي تتكون منها البطالة الطبيعية ثلاث شرائح. الأولى:
هم العاطلون بسبب التنقل بين الأعمال، وشريحة الفاقدون لعملهم بسبب تغير أو تتطور كيفية الإنتاج، فيتعطل البعض حتى يكتسب المهارة الجديدة (كالكمبيوتر قضى على الآلة الكاتبة فخلف بطالة، وكذلك فعلت الرقمية غيرت عمل السنترال.
والشريحة الثالثة من البطالة الطبيعية تقع تحت صنف عدم ملاءمة مهارات القوة العاملة لاحتياجات السوق.
فبما أن البطالة سببها الدورات الاقتصادية ونحن في طفرة البترول، وبما أن البطالة الطبيعية سببها تطور الاقتصاد وتنوعه وثراؤه.
ولذا فلعله من الصواب إلى حد كبير أن نقول إن البطالة بين السعوديين تكاد تكون مكونة كلها من بطالة طبيعية فقط تتركز في عدم ملاءمة مهارات القوة العاملة لاحتياجات السوق، (والذي سببه تقدم الاقتصاد عن خبرات المجتمع).
وهذا الصنف من البطالة قد يختلط بصنف العازف عن العمل لانخفاض الأجر عن تطلعات العامل السعودي (والذي سببه الثروة النفطية)، وهذه إشكالية في قياس معدل البطالة عندنا.
ومصدر الإشكالية أنه لا نستطيع اليوم التمييز بين الصنفين. فكثير من الأجور هي منخفضة حقا.
كما أنه ليس هناك نظام لإعانة الشرائح بحسب الرواتب وأفراد العائلة، فلا بد من أن تُحسب بطالة طالما أننا لم نقدم حلولاً لتمييزها، وبالتالي التأكد من نسبتها. وهذه المصيبة هي التي أعتقد أن اقتصادنا يتوجه لها، وهو مقصدي في عنونة مقالي بوزارة العمل الكمبودية. فسياسات وزراة العمل كنطاقات وغيره، كما تبدو لي، هي خفض مستوى البطالة على الطريقة الكمبودية.
توظيف عمالة سعودية رخيصة غير ماهرة فهي ذات إنتاجية منخفضة.
وبناء عليه فالخلاف عندنا في تصريحات معدل البطالة قد يكون له أسبابه، لا أعذاره.
فإن قيل إن معدل البطالة في السعودية يدور حول خمسة بالمئة معتبراً الذكور دون النساء، لكون حال النساء بعمومه وما فيه من التضييق عليهم اجتماعياً وفي فرص العمل الإنتاجية، فهذا قد يُعتبر تدليسا مقبولاً.
وإن قيل إن البطالة أكثر من عشرة بالمئة باعتبار النساء، فهذا هو الحق الذي يستلزم أن يُنظر إليه في السياسات الاقتصادية.
ولكن الذي لا يمكن توقعه ولا يعد تدليساً بل إفساد للاقتصاد وتضليل لسياساته، هو اعتبار معدل البطالة الكلي، الشامل للسعوديين والأجانب.
فالعمالة الأجنبية هي سبب مباشر وغير مباشر في بطالة السعودي، ولهذا أعتقد أننا نحسبها، وليس لغرض ضمها لمعدل البطالة الكلي.
فالبطالة هي مشكلة الاقتصاد كله، وحولها تدور دراساته وسياساته المالية والنقدية وتطبيقاته، والأجنبي جزء معقد من مشكلة البطالة لا حل لها.
المصدر: جريدة الجزيرة السعودية
تعليقات
إرسال تعليق